موضوع: انتبهوا لقلوبكم قبل موتكم الأربعاء ديسمبر 23, 2009 4:54 pm
أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين، وقلبت الليالي من سجلات السابقين، وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟! كل نفس من أنفاس العمر معدود، وإضاعة هذا ليس بعده خسارة في الوجود! {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها، تتخطفها وهي راقدة في منامها، تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها، تقبضها وهي مكبة على أعمالها، تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}
هاهو ابن آدم يصبح سليما معافا في صحته وحلته ثم يمسي بين إطباق الثرى قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب ويل للأغرار المغترين يأمنون الدنيا وهي غرارة ويثقون بها وهي مكارة ويركنون إليها وهي غدارة فارقهم ما يحبون ورأوا ما يكرهون وحيل بينهم وبين ما يشتهون ثم جاءهم ما يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون
إنها الدنيا!
تبكي ضاحكا، وتضحك باكيا، وتخيف آمنا و تؤمِّن خايفا، وتفقر غنيًا، وتغني فقيرا، تتقلب بأهلها لا تبقي أحد على حال! العيش فيها مذموم، والسرور بها لا يدوم، تغير صفاءها الآفات، وتنبوها الفجيعات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا، قد تنكرت معالمها وانهارت عوالمها!
لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه. فمن صفّى، صُفّي له، ومن كدّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله، كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره، كوفئ في ليله. ومن سره أن تدوم عافيته، فليتقِ الله ربه! فالبر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديّان لا يموت، وكما تدن تُدان.
وإذا رأيت في عيشك تكديرا، وفي شأنك اضطرابا، فتذكّر نعمة ما شكرت، أو زلة قد ارتكبت واحذر من زوال النعم، وفجاءة النقم! ولا تغتر بسعة حلم الحليم! فجودة الثمار من جودة البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في القيامة مع من أحب
يقول الفضيل ابن عياض رحمه الله
"من عرف أنه عبد الله، وراجع إليه، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول، فليعد لكل سؤال جواباً، قيل: -يرحمك الله- فما الحيلة؟ قال: الأمر يسير؛ تـُحسن فيما بقي، يغفر لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وما بقي"
وهذه وقفة محاسبة مع النفس، بل مع أعز شيء في النفس، مع ما بصلاحه صلاح العبد كله، وما بفساده فساد الحال كله! وقفة مع ما هو أولى بالمحاسبة وأحرى بالوقفات الصادقة.. يقول نبيكم محمدًا صلى الله عليه واله وسلم: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)). ويقول عليه صلى الله عليه وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)). ويقول الحسن رحمه الله: "داوِ قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب الله حتى تحب طاعته".
أيها المسلمون من عرف قلبه عرف ربه، وكم من جاهل لقلبه ونفسه والله يحول بين المرء وقلبه! يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "هلك من لم يكن له قلب يعرف المعروف وينكر المنكر".
أيها الإخوة
لابد في هذا من محاسبة تفضّ مغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعا.. من لم يظفر بذلك فحياته كلها والله هموم في هموم، وأنكاد وغموم، والآم وحسرات، بل إن الله لم يبعث نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلا بالمهمّتين العظيمتين: 1- علم الكتاب والحكمة 2- وتزكية النفوس {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. بل لقد علق الله سبحانه تعالى صلاح عبده على تزكية نفسه، وقدم ذلك وقرره بإحدى عشر قسم متواليا، اقرؤوا إن شئتم وتأملوا: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
أيها الإخوة
إنّ في القلوب فاقة وحاجة لا يسدها إلا الإقبال على الله ومحبته والإنابة إليه، ولا يلم شعثها إلا حفظ الجوارح واجتناب المحرمات واتقاء المشتبهات.
معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين. معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته وحركاته ولفتاته، والحذر من كل هاجس واحتياط من المزالق والهواجز، والتعلق الدائم بالله، فهو مقلب القلوب والأبصار.
جاء في الخبر عند مسلم رحمه الله من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو رضي الله عنهما يَقُولُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ)). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)). ولا ينفع عند الله إلا القلب بالسليم {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] ومن دعائه صلى الله عليه,واله وسلم: ((وأسألك قلبا سليما)).
3. وقلب مرتكس منكوس فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي.
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ} [النساء : 88]. 4. وقلب تمدّه مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق، فهو لما غلب عليه منهما. ولقد قال الله في أقوام: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ}[آل عمران : 167].
وفي القلب قوتان
* قوة علم في إدراك الحق ومعرفته والتميز بينه وبين الباطل. * وقوة إرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل.
فمن لم يعرف الحق، فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره، فهو مغلوب عليه، ومن عرفه واتبعه، فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم.